ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، في مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
“عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما كان يوصي به الإمام زين العابدين محبيه وشيعته:
“أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أنكم إليه راجعون، فتجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، (ويحذركم الله نفسه) ويحك ابن آدم الغافل، وليس مغفولا عنه، إن أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك، ويوشك أن يدركك، فكأن قد وفيت أجلك، وقد قبض الملك روحك، وصيرت إلى قبرك وحيدا.. واقتحم عليك ملكان منكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك، ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاه، وعن عمرك فيما أفنيته، وعن مالك من أين اكتسبته، وفيما أنفقته، فخذ حذرك، وانظر لنفسك، وأعد الجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار”.
أضاف: “أيها الأحبة، حين نأخذ بوصايا إمامنا، ونعي أبعادها، نصبح أكثر دقة فيما نؤمن به ونعتقده، وفي القيادة التي نلتزمها، وفي المال الذي نكسبه وننفقه، وفي العمر الذي نصرفه، فلا ينبغي أن نؤمن بأي فكرة إلا بناء على قناعة، ولا ينبغي أن نسير مع أحد إلا بعد أن نتأكد أنه يوصلنا إلى رضوان الله، ولا نكسب إلا عندما نطمئن إلى أنه من حلال وأنه يصرف في الحلال، ولا نبدد عمرنا في لغو ولهو، وبذلك سنصبح أكثر وعيا ومسؤولية، وأكثر خيرا وعطاء، وبذلك نواجه التحديات.
والبداية من لبنان، الذي لم يطل فيه الوقت على نقض المجلس الدستوري لرزمة الضرائب التي أصدرها ممثلو الشعب اللبناني في المجلس النيابي، حتى سارع هؤلاء إلى الالتفاف على هذا القرار وإعادة إصداره، بالصورة التي لم تختلف كثيرا عما كانت عليه سابقا، والتي انتقدناها، لكونها تمس بشكل كبير الطبقات المتوسطة والفقيرة، وخصوصا أنها لم تستفد من هذه الزيادات.
لقد أصبح واضحا، وعلى لسان صانعي القرار المالي في الدولة، أن الإصرار على هذه السلسلة وعلى تمريرها، لم يكن الهدف منه هو السلسلة، بقدر ما كان الهدف هو سد عجز الموازنة وتحميل المواطنين وزر سنوات من الهدر والسرقة المقوننة المستمرة من دون حسيب ورقيب.
لقد اختار المجلس النيابي الأسلوب السهل لسد هذا العجز، وهو مد اليد إلى جيوب الناس والفقراء، بدلا من اتخاذ إجراءات إصلاحية، واستئصال جذور المرض الذي سبب وسيبقى يسبب هذا العجز. وإذا لم تحصل هذه الإصلاحات، ولم تسد أبواب الفساد والهدر، سنشهد هذا السيناريو نفسه، كما سنشهد ضرائب جديدة”.
وتابع: “نحن في هذا المجال، لسنا ممن يفكرون بطوباوية ومثالية، أو ممن يريدون تسجيل النقاط، فنحن نعرف أن الدولة، أي دولة، لا يمكن أن تعيش أو تستمر بدون ضرائب. وبالتالي، من حق الدولة أن تفرض ضرائب، وحتى أن تزيدها، ولكن شرط أن يرى المواطن مردودها، بحيث لا يدفع فاتورة الكهرباء والماء مرتين، أو غير ذلك من احتياجات يجد نفسه فيها وحيدا يقلع شوكه بأظافره.
لقد كنا نراهن على أن يكون البديل هو إصلاح مؤسسات الدولة، وإيجاد علاج لإيقاف كل مزاريب الهدر والفساد والمحسوبيات التي أصبحت مكشوفة، وباتت وسائل الإعلام تتناقلها. ولكن يبدو أن هذا الأمر ليس واردا لدى هذه الطبقة، فهي لن تقدم على هذه الخطوات لأنها تمسها، ولأنها مطمئنة إلى أنه ليس هناك من يحاسب ويراقب. ويكفي زعماء هذه الطبقة، حتى يكسبوا جمهورهم، أن يدغدغوا مشاعره الطائفية والمذهبية، وأن يثيروا مخاوفه حتى يستكين لهم.
لقد كنا نراهن على المجلس الاقتصادي الاجتماعي أن يكون له دور في التعبير عن هموم المواطنين وحاجاتهم، ولكن، وكما حصل في مواقع أخرى، أتى ملبيا للمحاصصة بين القوى السياسية، بدلا من أن يكون معبرا حقيقيا عن إنسان هذا البلد”.
وقال: “إننا أمام ذلك، ندعو اللبنانيين إلى أن يكونوا واعين، وأن يفتحوا أعينهم جيدا على ما يجري من حولهم، وأن لا يخدعوا، وأن يختزنوا في أنفسهم كل هذا العبث بهم وبمصالحهم، وكل الضغوط والآلام التي يتعرضون لها.. وأن يعبروا في الوقت المناسب عن غضبهم وسخطهم، والاستحقاق الانتخابي ليس ببعيد، وسنبقى نراهن على أصواتهم، وعلى كل الأصوات الحرة والحريصة على إنسان هذا البلد، لإيقاف الانهيار فيه، والوصول إلى الدولة العادلة؛ دولة الإنسان، فلا ينبغي أن نكتفي بالبكاء على الأطلال وندب الحال وتقليب الكف على الكف.
في هذا الوقت، يترقب العالم ما ستحمله الساعات والأيام القادمة من قرارات تصدر عن الرئيس الأميركي بشأن الملف النووي الإيراني، وما قد يواكبها من عقوبات تطال من يناوئون السياسة الأميركية المتحالفة مع إسرائيل ويربكون خططها، ومن تهديدات صدرت عن وزير الحرب الصهيوني، وطالت الجيش اللبناني.
ونحن في الوقت الذي نرى في كل ذلك انعكاسا طبيعيا لفشل مشاريع كانت قد رسمت لسوريا والعراق والمنطقة بشكل عام، ندعو إلى أخذ المخاطر بجدية، وعدم إطلاق العنان للخوف من كل ذلك، فقد أصبح واضحا، وبالوقائع، أن هذا العالم لم يعد عالم القطب الواحد، وأن العدو الصهيوني الذي يهدد ويتوعد لم يعد يملك حرية أن يفعل ما يشاء، كما كان يفعل سابقا، ويشهد على كل ذلك التاريخ القريب الذي عشناه، وهو قابل لأن يتكرر ما دام في الأمة نبض حياة وعزة وغير ذلك”.
وفي ما يتعلق بالساحة الداخلية، فأكد فضل الله “ضرورة تدعيم الجهة الداخلية لمواجهة أية أخطار قد تهدد البلد على المستوى الأمني أو الاقتصادي”، وختم: “ندعو إلى الكف عن أي خطاب يؤدي إلى توتير أجواء هذه الوحدة في الداخل، وخلق تشنجات تحت أي عنوان من العناوين، ولا سيما مع اقتراب الانتخابات، التي غالبا ما يستخدم فيها الخطاب الشعبوي أو الشعارات التي تشد العصب الطائفي والمذهبي، كما نرى تصاعد هذا الخطاب الآن.
وهنا، نقدر أي جهد ولقاء يساهم في تعزيز المناعة الداخلية ويقويها، لمواجهة كل هذه التحديات، فبالوحدة الداخلية نستطيع أن نمنع هذه المحاذير في الداخل”.